رحاب نزّال: البصريّات تحوّل المعرفة المجرّدة الى معرفة ملموسة | حوار

رحاب نزّال

 

* البصريّات قادرة على إيصال ما لا يستطيعه النصّ المكتوب.

* البصريّات تحوّل المعرفة المجرّدة الى معرفة ملموسة.

* توجيه عدستي نحو المستعمر قلب لمعادلة امتلاكه للقدرة على توجيه عدسات مراقبته. 

* التضامن بيننا وبين الشعوب الأصلانيّة عمليّة تراكميّة تعتمد على تبادل المعرفة.

 

في عام 2005، وبعد زيارتها الأولى لفلسطين بعد عقدين من الغياب، تحوّلت الفنّانة الفلسطينيّة المقيمة في كندا وفلسطين، من الرسم والرسم بالألوان، إلى الصوت، والصورة، والفيديو، لتتعامل داخل هذه الحقول الفنّيّة المعاصرة، مع ثيمة العنف الاستعماريّ الاستيطانيّ وتمثّلاته، ومع تجربة المقاومة الأصلانيّة وتجسّداتها المختلفة للتكنولوجيا الاستعماريّة المدمّرة.

عن هذا التحوّل تقول نزّال أنّ البصريّات أكثر قدرة على أن تكون نقديّة سياسيّة من اللوحة، وبأنّها أقدَرُ على قلب الأدوار ما بين المستعمِر والمستعمَر؛ فبدلًا من أن يكون المستعمَرُ موضع رقابة دائمة من المستعمِر، يصبح بمكنته مراقبة المستعمِرِ من خلال عدسة الكاميرا.

حصلت نزّال على درجة الدكتوراه في «الفنون والثقافة المرئيّة» من «جامعة ويسترن أونتاريو»، وقد درّست من قبل في «جامعة دار الكلمة» في مدينة بيت لحم، وكانت قد حصلت على شهادة الماجستير في «الفنون الجميلة» من «جامعة رايرسون».

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، نتحدّث مع نزّال عن بدايات تجربتها في الصورة والصوت، وعن قصّة استعادتها لحقّ العودة بعد غياب عقدين عن البلاد، وعن تجربتها في إقامة المعارض الفنّيّة ذات المحتوى الفلسطينيّ في كندا، وعن العلاقة ما بين القضيّة الأصلانيّة في كندا وتلك الّتي في فلسطين.

 

فُسْحَة: سأبدأ بسؤالك عن كندا، وموقع القضيّة الأصلانيّة في كندا من القضيّة الأصلانيّة في فلسطين؟

رحاب: يختلف معنى هذا السؤال للفلسطينيّ عن غير الفلسطينيّ؛ لأنّ نموذج الاستعمار الاستيطانيّ الغربيّ في شمال أمريكا (جزيرة السلحفة) مشابه للاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ في فلسطين. يزيد عمر الاستعمار الاستيطانيّ في ما يسمّى كندا عن خمسمائة عام، أيّ منذ 1600 ميلادي وحتّى الآن، منذ وصول المستعمرين الأوربيّين إلى شمال أمريكا.  قبل لك كان للسكّان الاصلانيّين حياتهم، وثقافاتهم، ولغاتهم، واقتصادهم، ويتميّزون بعلاقة استثنائيّة مع الأرض والبيئة. ومن ثمّ جاء المستعمرون البريطانيّون والفرنسيّون، وشرعوا بإفناء الملايين منهم واقتلاع ونفي مجتمعات بأكملها من منطقة إلى أخرى داخل القارّة نفسها، والسيطرة على أراضيهم ومواردهم الطبيعيّة، وحَصْرِ وعزل الناجين منهم في «محميّات» كما الكانتونات. التشابه كبير إذا ما تناولنا النكبة وتجريد واقتلاع الفلسطينيّين من بيوتهم وأراضيهم. ثمّة اختلافات بين الحالة الاستعماريّة في كندا وتلك الّتي في فلسطين، لكنّ الغاية الاستعماريّة واحدة هنا وهناك؛ الهيمنة على الأرض، والقضاء أو السيطرة على الناجين بعد تحويلهم الى أقلّيّة. ورغم التنوّع السكّانيّ الهائل حاليًّا في كندا بسبب المهاجرين، إلّا أنّ الهيمنة كانت ولا تزال للرجل الأبيض، في الاستحواذ على الأراضي، والموارد الطبيعيّة، وفي صنع القرار.

لم يكن ثمّة ذكر للسكّان الأصلانيّين عندما هاجرت إلى كندا في أوائل التسعينات، وكانت الكتب المدرسيّة الّتي تعلّمها أولادي في المدرسة تذكر أنّ الأوروبيّين الروّاد، الّذين بنوا هذه الدولة، قد أتوا ليُحضِّروا (Civilize) السكّان الأصلانيّين البدائيّين. هو المصطلح نفسه الّذي يُشير إلى الفلسطينيّين. فالغرب، مثلما تناول إدوارد سعيد، يعتبر كلّ ما هو ليس غربيًّا، وتحديدًا العالمين الإسلاميّ والعربيّ،  غير متحضّر، أو متوحّش، ومتخلّف، وقد جاء الأوروبيّ لينقذه أو ليحضّره. وكذلك استُخْدِمَ الدين للتغطية على أهداف مشاريع الاستعمار الاستيطانيّ في حالتيّ جزيرة السلحفة وفلسطين.

لقد ظهر التغيير خلال السنوات العشر الأخيرة بما يتعلّق بالسكّان الأصلانيّين، وبدأت الجرائم الّتي ارتُكِبَت بحقّهم تظهر إلى العلن، خاصّة بعد صدور «تقرير الحقيقة والمصالحة» عام 2015،  والّذي تناول جرائم استهداف الأطفال الأصلانيّين. وذلك وجه تشابه بين ما حدث لهم وما يحدث للفلسطينيّين من استهداف الأطفال بما هو استهداف للمستقبل. إذ قامت الحكومة الكنديّة الاستعماريّة بالتعاون مع الكنيسة لما يزيد عن مئة عام (1990s-1840s) بخطف الأطفال الأصلانيّين من عائلاتهم بالقوّة لتضعهم فيما يُسمّى بـ «المدارس الداخليّة»، حيث عُلِّموا اللغة الإنجليزيّة، وأجبِروا على نسيان لغتهم الأصلانيّة، وثقافتهم، وأجبِروا على الديانة المسيحيّة. بدأت الفضائح بالتكشّف هذا العام، حيثُ تم في شهر أيّار الماضي الكشف عن واحدة من مقابر عديدة حَوَت 215 جثّة لأطفال أصلانيّين تعرّضوا لإساءات عاطفيّة، وجنسيّة، ونفسيّة. وثمّة أولئك الّذين تجمّدوا في درجات الحرارة شديدة البرودة عندما حاولوا الهرب من المدارس. أحيانًا تفكّر بخيوط التشابه هذه ما بين الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين وما جرى ولا يزال يجري في هذه البلد، مثل الأرض الّتي تسيطر عليها الحكومة هنا رغم الاتّفاقات الموقّعة بين الحكومة والأصلانيّين، ومثل المحميّات المخصّصة للسكّان الأصلانيّين، والّتي تذكّر بسياسات العزل الصهيونيّة في فلسطين. إنّ عدم استسلام السكان الأصلانيّين في شمال أمريكا، وصمودهم لمئات السنين وعدم رضوخهم ونهوضهم هو درس لنا كفلسطينيّين.

 

فُسْحَة: هذا ما أردت سؤالك عنه، ففي لقاء سابق تكلّمت عن الذاكرة وضرورة الحفاظ عليها، فكيف يمكن للصورة أو الفيديو أن توثّق الذاكرة الفلسطينيّة، بالمقارنة مع الحالة الكنديّة؟

رحاب: لربّما البصريّات قادرة على إيصال ما لا يستطيعه النصّ المكتوب، فالبصريّات تحوّل المعرفة المجرّدة الى معرفة ملموسة. للبصريّات قوّة الاختراق، وللتوثيق والتعبير البصريّ في الحالة الفلسطينيّة أهمّيّة بالغة في حماية الهويّة والذاكرة. مثلًا، لعب الفنّ البصريّ دورًا محوريًّا في الحفاظ على الرواية الفلسطينيّة، وفي التعبير عن الذاكرة والهويّة، منذ انطلاق الثورة الفلسطينيّة وحتّى اللحظة. وثمّة شيء مُلفت في حالة الفنّ الفلسطينيّ الّذي لم يتأثّر ارتباطه أو انتماءه بالتقسيمات الجغرافيّة ولا بالاتّفاقيّات السياسيّة الّتي تجري هنا وهناك. فبالنسبة للفنّانين فلسطين واحدة، والشعب الفلسطينيّ شعب واحد، بل أكثر من ذلك، فثمّة انتماء للعروبة وللإنسانيّة أيضًا. وبالمقارنة مع الأصلانيّين في جزيرة السلحفة أو ما يسمّى كندا، فأحد أوجه الشبه مع الفلسطينيّين هو استخدام الصور الثابتة والمتحرّكة للتعبير عن الرابط بين المكان والذاكرة، وفي حماية الثقافة من السرقة، وأيضًا للتحقيق في الأرشيفات الفرديّة والجمعيّة، بما فيها الّتي استحوذت عليها السلطات الاستعماريّة. إن كان الأصلانيّون في كندا قد حافظوا على ذاكرتهم عبر أكثر من خمسة قرون من الاستعمار الاستيطانيّ المستمرّ، فنحن فلم نتوقّف للحظة عن ترسيخ الذاكرة والحفاظ على هويّاتنا، رغم أنّ المراحل السياسيّة المختلفة أثّرت بأشكال مختلفة على قدرتنا على التعبير وخاصّة بعد اتّفاق أوسلو المشؤوم.

 

فُسْحَة: أريد سؤالك بشكل خاصّ عن التحوّل من الرسم إلى التصوير، وعن ثيمة العنف الاستعماريّ الّتي اخترتها موضوعًا للتوثيق والتصوير؟

رحاب: ثمّة مرحلة فاصلة في حياتي هي الّتي نقلتني من الرسم والرسم بالألوان إلى الصورة والفيديو بداية من عام 2006. آنذاك كنت أمارس وأيضًا أدرّس الرسم. في عام 2005، عدت إلى فلسطين بفيزا لمدّة شهر، بعد غياب أكثر من عقدين من الزمن، وشعرت بالصدمة من الدمار الّذي حلّ بالضفّة الغربيّة، لأنّ فلسطين الّتي تركتها في ثمانينيّات القرن الماضي كانت مختلفة. صُدِمْت من المستوطنات الأشبه بالفطريّات على رؤوس الجبال، وبالحواجز العسكريّة المنتشرة في كلّ مكان. في طريق العودة، وعلى الجسر، يتجلّى الفصل العنصريّ أكثر وأكثر، فمن جهة هناك الجسر المخصّص للفلسطينيّين المحاطين بالجنود، ومن جهة أخرى هناك الجسر المخصّص للإسرائليّين و للأجانب المستريحين على المقاعد وفي خدمتهم الضبّاط بلباس مدنيّ. في تلك اللحظة سألت الضابطة الّتي أحضرت إليّ جواز سفري المختوم وقلت لها:"أنتم أخذتم هويّتي منّي هنا عام 1980، وأنا أريدها ". عادت إلى مشرفها ثمّ رجعت إليّ بقائمة أسئلة لتتأكّد من هويّتي، ثمّ غابت عشر دقائق وعادت مرّة أخرى وقالت لي:"هذه هي هويّتك" وهي كما تعلم رقم، فقلت لها:"ألغي لي ختم الخروج، لن أسافر"، فقالت:"ولكن لا يمكنك أن تحملي جنسيّتان، واحدة فلسطينيّة وأخرى كنديّة"، وعندها سألتها:" كم جنسيّة تحملين أنت؟ ومن أعطاك الحق أصلًا في منعي من حمل أكثر من جنسيّة؟ ألغي لي ختم الخروج، سأعود إلى الضفّة الغربيّة".

باختصار، استعدت هويّتي وفي السنة التالية عدت مع أولادي ( والدهم من طبريّا، اقْتُلِعَتْ عائلته من بلدتهم وجُرِّدُوا من ممتلكاتهم) وسجّلتهم في هويّتي، واستعدنا حقّنا في العودة، وأصبحنا طبعًا خاضعين لقانون المستعمر الإسرائيليّ العسكريّ. ولكن لم يعد المستعمر يتحكّم بحقّنا في وطننا، وكان ذلك أعظم إنجاز حقّقته في حياتي.

 

فُسْحَة: ومنذ ذلك الوقت بدأت بالتصوير؟

رحاب: نعم، تحوّلت إلى ثلاثة أشكال فنّيّة معاصرة؛ الصوت، والفيديو، والتصوير الفوتوغرافي. ومنذ ذلك الحين اختلف تأثير عملي الفنّيّ أيضًا؛ فقبل ذلك، كنت أجلس في الاستوديو وأرسم، وتشتري الناس لوحاتي الّتي كانت تعتمد على الذاكرة والخيال، وذلك يعني أنّ فيها الكثير من الذاتيّة، و لم تؤدّي الى تفاعل الناس. لكنّ التصوير يختلف.

 

رحاب نزّال - From the photo series Downtown the City of Al-Khalil, 2010

 

فُسْحَة: ما الّذي يختلف؟

رحاب: ما يختلف هو أنّ التصوير أكثر موضوعيّة، من الصحيح أنّك أيضًا عندما توجّه العدسة فثمّة ذاتيّة حاضرة في ما تستثنيه وفي ما تشمله الصورة، ولكن بشكل أقلّ من الرسم. فعندما أرسم حاجزًا عسكريًّا من الذاكرة، هل هو موجود أم لا؟ ولكن عندما أصوّره، فأجل، هو موجود، على مدخل مدينة نابلس مثلًا. فثمّة اختلاف كبير، أصبح عملي يتّسم بالنقديّة السياسيّة، وبالاشتباك، ويولّد حوارات، ويطرح أسئلة، أي أنّه لم يعد محصورًا، وهذا فرق آخر بين الرسم والصورة النقديّة.

 

فُسْحَة: هل يساعد التصوير على انتزاع فاعليّة ذاتيّة، بوصفك ذاتًا مستعمرة، من خلال القدرة على توجيه الكاميرا بما يعنيه ذلك من تحديق، ونظر، ومراقبة، بدلًا من أن يكون المستعمَرُ مُراقبًا، محطّ نظر، وموضع تحديق؟

رحاب: توجيهي عدسة كاميرتي على المستعمر هو قلب لمعادلة أنّ المستعمر هو الّذي يمتلك القدرة على توجيه عدسات مراقبته التجسّسيّية علينا. فعدسة المصوّر هي الّتي تراقب المستعمر المحتلّ. التصوير هو شكل من أشكال المقاومة الممكنة، يمكّننا نحن في الشتات من مناقضة الرواية الصهيونيّة الغربيّة السائدة. فأوّل معرض تصوير فوتوغرافيّ أقمته، خصّصت إحدى الصحف الكنديّة الرئيسيّة صفحة كاملة للمعرض الّذي أسميته بـ «Walking Under Occupation»، وكان نتاج زيارتي عام 2005، ووثّقت فيه تجوّلي في فلسطين بتركيز على حاجز حوّارة، وجدار الفصل العنصريّ في بيت لحم، وسرقة الأراضي في طولكرم وسلفيت. فأجل، التصوير شكل من أشكال المقاومة الّتي يمكنها زعزعة السرديّة الصهيونيّة في الخارج، وهي حاضرة وبقوّة في كندا، وتحاول دائمًا إسكات الصوت الفلسطينيّ واستهداف الحكاية الفلسطينيّة.

 

رحاب نزّال - Driving to Bethlehem from Ramallah, 2010

 

فُسْحَة: هذا ما أردت سؤالك عنه بما يتعلّق بمعرض «Invisible» الّذي أقمته عام 2014، ما الّذي حدث آنذاك مع اللوبي الصهيونيّ في كندا؟

رحاب: لم يكن اللوبي الصهيونيّ فقط، بل كانت دولة إسرائيل بممثّلها وسفيرها في كندا من استهدف المعرض.

 

فُسْحَة: ولكنّ المعرض استمرّ رغم محاولات وقفه؟

رحاب: نعم انقلب هجومهم عليهم. كان ذلك في العام 2014، وكنت أقمت المعرض في جاليري حكوميّ يقع في مقرّ بلديّة العاصمة، أوتوا. في ذلك الوقت عقَدَ السفير الإسرائيليّ في كندا مؤتمرًا صحفيا واتّهمني بتمجيد الإرهاب، مدّعيًا أنّ المعرض جرح مشاعره الرقيقة، وطالب رئيس البلديّة بإلغاء المعرض. هنا أيضًا تحرّك اللوبي الصهيونيّ، والإعلام الرسميّ، وبعض أعضاء الحكومة الكنديّة الّتي كانت في حينها محافظة، وللسخرية أنّ وزير الشؤون الديمقراطيّة في الحكومة الكنديّة هو من تصدّر المشهد وهاجم المعرض في قلب البرلمان، وأيضًا سيناتور باربارا فروم، والهجوم شمل أيضًا رئيس البلديّة نفسه. بالنسبة لرئيس البلديّة لم يكن دفاعه عن المعرض نابعًا من موقف يساريّ مساند للقضيّة الفلسطينيّة، بل كان دفاعًا عن الدستور وعن حقّي، بصفتي مواطنة كنديّة، في إقامة المعرض الّذي لم يكن فيه ما ينتهك القواعد الدستوريّة. وصلتنا أنا ورئيس البلديّة الكثير من التهديدات، ووُضِع المعرض تحت رقابة البلديّة لمدّة أربعة أسابيع، وهذا يعطيك فكرة عن المدى الّذي يمكن أن يصل إليه العنف الصهيونيّ لإسكات أيّ شكل من أشكال تعبير الفلسطينيّ عن نفسه، وهويّته، وذاكرته،  بما في ذلك التعبير الفنّيّ.

 

معرض «Invisible»

 

كان المعرض صوتًا وصورة فقط، لم يكن ثمّة نصوص كثيرة. وهنا يتّضح معنى الفنّ المشتبك الّذي تحدّثت عنه، أو القادر على افتعال الاشتباك ما بين الجمهور والمحتوى الفنّيّ؛ عندما حدثت الهجمة عليّ وعلى المعرض تحرّك المجتمع الفنّيّ على مستوى كندا، ليس فقط في مقاطعة أونتاريو. وصل كمّ هائل من الرسائل إلى البلديّة تستنكر تدخل السفير الإسرائيليّ واللوبي الصهيونيّ، وصدرت بيانات تضامنيّة بآلاف التواقيع،، وكان ثمّة الكثير من المبادرات الفرديّة والجماعيّة التضامنيّة مع المعرض ودفاعًا عن حقي في التعبير، والبعض قام بتدريس محتوى المعرض في الجامعات.  وكُتِبَت مقالات مساندة في الإعلام البديل وبعض وسائل الإعلام الرسميّ. بدوري كتبت ونشرت فصلًا في كتاب عن فنانّي أونتاريو لتوثيق محاولة مصادرة المعرض. قد توضّح هذه التجربة قدرة الفنّ الملتزم/ المشتبك سياسيًّا على نشر الوعي، والمعرفة، ومجابهة التشوية والتزوير.

 

 

فُسْحَة: هل ثمّة توازٍ بين الصحوة في دراسات الحالة الاستعماريّة الكنديّة وبين التعاطف مع فلسطين؟

رحاب: ليس بالضبط، هناك صحوة أصلانيّة عالميّة.

 

فُسْحَة: هل الموضوعان منفصلان بالنسبة إليهم؟

رحاب: مشكلات الأصلانيّين هنا كثيرة، نحن مهاجرون نتمتّع بامتيازات وحقوق أكثر منهم. ولكنّ قضيّتنا مرتبطة ليس فقط مع نضال الأصلانيّين في كندا، بل مع كافّة شعوب الأرض الّتي تواجه العنف الاستعماريّ الاستيطانيّ، والجشع الرأسماليّ، والتمييز العنصريّ بما في ذلك «حركة السود».  

 

فُسْحَة: ألا يشعرون بأنّ الفلسطينيّين يعيشون صراعهم ذاته؟

رحاب: ثمّة الكثير من الفنّانين، والباحثين، والنشطاء الأصلانيّين الّذين يزداد وعيهم بالقضيّة الفلسطينيّة، وبأوجه الشبه بين الحالتين، ولكن أيضًا ثمّة حجب ممنهج للقضيّة الفلسطينيّة في السياسات الحكوميّة، والإعلام الرسميّ، وفي مناهج التعليم المدرسيّ والعالي. ولكنّ الوضع بدأ يتغيّر مع تصاعد النشاط الفلسطينيّ، فالجالية الفلسطينيّة ليست بقليلة العدد،  وثمّة جيل ثانٍ ينخرط في حركة التغيير بما يخصّنا ويخصّ الأصلانيّين هنا. شعور الأصلانيّين بالتشابه بين معاناتهم ومعاناة الفلسطينيّين يتعاظم، والوعي المتبادل بيننا يعتمد بالدرجة الأولى على حركات التضامن والنشاط المنظّم للدفاع عن الأرض هنا وهناك.

في عام 2016، كنت أدرّس في «جامعة دار الكلمة» في بيت لحم، قمنا بتنظيم «مؤتمر الفنّ والمقاومة»، ودعونا إليه فنّانين وباحثين من اثنتيّ عشر دولة، بما في ذلك أصلانيّين من كندا وأميركا. وقامت إحدى القيّمات الأصلانيّات بعد عودتها إلى كندا بكتابته مقالة في مجلّة «Canadian Art Magazine»، بعنوان: «أصلانيّون في فلسطين». وهُوجِمَتْ من الصهاينة طبعًا.  إذن، ما أريد قوله أنّها عمليّة تراكميّة تعتمد على إيصال المعرفة، والمعلومات وتعزيز التضامن، وتطوير العلاقات بيننا وبين الشعوب الأصلانيّة.

 

فُسْحَة: ما هي الصورة الّتي التقطتها ولخّصت ما أردت التقاطه خلال عملك بأكمله؟

رحاب: ليس هناك صورة واحدة ولكن صورة  «داوود وجالوت David and Goliath»؛ لشابّ يضرب المقلاع من الصور المؤثرة الّتي التقطتها لأنّها جسّدت صراع الحقّ في مواجهة القوّة. كان ثمّة رمزيّة للحجر، وللشابّ بوضعيّة جسده الّتي تنفُضُ مشاعر الخنوع، والخضوع، والاستسلام، وتقول أنّ تغيّر موازين القوى ممكن مع مرور الوقت. من وحي هذه الصورة صنعت فيديو، «أجساد في حركة»، وأيضًا عمل تركيبيّ بعنوان «رقصة المقاومة».

 

 

فُسْحَة: المعرض الجماعيّ «Live in Palestine» كان جزءًا من عملك في دعم الفنّانين الفلسطينيّين، هل يمكن أن تحدّثينا قليلًا عن المعرض؟

رحاب: كان المعرض نتاج «مؤتمر الفنّ والمقاومة»، لأنّني كنت قد دعوت قيّمتَين فنّيّتَين من كندا، وعندما رجعنا إلى كندا قمنا بتطوير مقترح «Live in Palestine»، أي أن نشتغل على إقامة معرض لإحدى عشر فنّان وفنّانة من كلّ فلسطين، من حيفا، والقدس، وبيت لحم، وغزّة. كان بودّنا استضافة هؤلاء الفنّانين ولم يكن ممكنًا استضافة أيّ فنّان أو فنّانة من غزّة أو الضفّة. فقط استضفنا رنا بشارة من الداخل  في إقامة فنّيّة، وقدّمت أداءً حيًّا بالترافق مع المعرض في مقاطعة كيبيك. انتقل المعرض الى تورنتو وبعدها إلى مونتريال. وقبل ذلك استضفنا رائدة سعادة في «مهرجان الفن الأدائيّ» في فانكوفر.  ولا يزال المعرض معرضًا متنقّلًا ولكنّ «كوفيد» أعاقنا قليلًا، ولم ينبسّ الصهاينة بكلمة واحدة.

 

رحاب نزّال - Resistance Dance, installation, seven life-size vinyl prints,  Western University McIntosh Gallery and AXENEO7 Gallery, Gatineau, Quebec, 2018.

 

فُسْحَة: لماذا، برأيك؟

رحاب: أعتقد أنّه بسبب الإنجازات الّتي تراكمها الجالية الفلسطينيّة الفاعلة. عندما تعرّضت لهجوم عام 2014 لمدّة أربعة أسابيع، وبعد انتهاء الحملة مباشرة، نظّمت الجالية الفلسطينيّة مهرجانًا ثقافيًّا، ودُعِيَ عمدة أوتوا، ورُفِعَ العلم الفلسطينيّ مع شعار المهرجان. هناك معاناة ولكن تتحقّق الإنجازات خطوة بخطوة، الأمر ليس سهلًا. لتوّنا قد انتهينا من معرض «فنّ تحت الحصار On Borrowed Time in Gaze» في فانكوفر غرب كندا، وكان معرضًا استثنائيًّا وقويًّا خاصّة في ظروف «كوفيد». جاءت فكرته من زيارتي الأخيرة لقطاع غزّة في حزيران الماضي. كنت قد ذهبت لأساهم في حملة علاج نفسيّ بالفنّ مع الأطفال، وحتّى اللحظة أشعر أنّني لم أصحو من آثار الزيارة، من استيعاب معاناة أهلنا في غزة الّذين ليس لديهم مساحة أو وقت للتعافي من صدماتهم المتتالية، فما أن يصحوا من واحدة حتّى تتبعها الأخرى.

خلال الوقت الّذي قضيته هناك تلقّيت دعوات من فنّانين وفنّانات لزيارة استوديوهاتهم، وقرّرت جلب 200 عمل برفقتي لثلاث فنّانات وثلاثة فنّانين، كان المعيار الرئيسيّ القدرة على حمل الأعمال في حقيبة سفري ودعم الفنّانين في أوضاعهم القاسية. وقد حاولت التواصل مع عدد من صالات عرض الفنون في تورنتو وغيرها من المدن الكنديّة، ولكن كان ثمّة حالة تخوّف مؤسّساتيّة من استضافة المعرض. «معاداة الساميّة» هي السلاح الّذي يشهرونه في وجه أيّ شخص يعبّر عن الهويّة الفلسطينيّة، أو حتى يقول الحرّية لفلسطين، أو غزّة، أو ينادي بإنهاء الحصار. التمييز ضد الفلسطينيّين في كندا يعمّ المؤسّسات الفنّيّة، والأكاديميّة، ومؤسّسات الدولة.

 في النهاية تمكّنت برفقة زملائي جيس سلوم وجيف أوبرايان من الاتّفاق مع «جاليري مونيكا ريس» لإقامة المعرض، رحّبت مونيكا باستضافة المعرض، فصالتها لا تتلقّى أيّ دعم ماليّ صهيونيّ. كان التفاعل مع الأعمال متميّزًا والحضور مدهش، وتمّ بيع عدد كبير من الأعمال، وكذلك كان النقاش نقديًّا وحيويًّا، وسلّط الضوء على الظروف الّتي تحيط بعمل فنّاني غزّة، وذلك كان مهمًّا جدًّا حتّى تكون فلسطين وغزّة حاضرتان دومًا في ذاكرة العالم.  فأجل، هذا أقلّ ما نستطيع فعله، أي دعم الفنّانين الفلسطينيّين، وإسماع صوتهم، ونقل إبداعاتهم إلى كلّ العالم، رغم الإمكانيّات المحدودة.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.